تطفو الخلافات والتوترات بين الصهيونية المسيحية والصهيونية اليهودية في الآونة الأخيرة، ترتقي إلى حد صراع أجنحة بالمعنى التقليدي، رغم أنه تحالف استراتيجي يتفق كلا التيارين فيه على دعم الكيان وضرورة وجوده، دون أن يؤثر القمع الوحشي التي تمارسه إسرائيل، ومع ذلك، يتعين على المرء أن يتساءل لماذا كانت الولايات المتحدة داعمة ثابتة لإسرائيل، حتى مع تحول هذا الموقف إلى موقف أكثر هشاشة بالنظر إلى ردود الفعل العنيفة المتزايدة تجاه معاملة إسرائيل للشعب الفلسطيني.
هناك العديد من العناصر التي تلعب دورًا في الحفاظ، ليس فقط على أن تقوم إسرائيل بالدور الوظيفي كحليف عسكري وسياسي استراتيجي يسمح بتعزيز الهيمنة الأمريكية في منطقة معادية غالبًا للقوة العظمى ، أو منظمات الضغط القوية للغاية المؤيدة لإسرائيل التي لها علاقات عميقة داخل الحكومة الأمريكية، لكن هناك عامل يلعب دوراً ثابتا له صلة خاصة بإدارة ترامب وهم المسيحيون الإنجيليون، التي تعود جذورهم إلي الحركة الصهيونية المسيحية في أمريكا التي نشأت أواخر القرن التاسع عشر، حيث جاءت بعض أقدم الأدلة التاريخية من دعوة الإنجيلي البروتستانتي والمؤلف ويليام اي بلاكستون إلي العمل من أجل عودة اليهود إلى الأرض المقدسة في كتابه الأكثر مبيعًا "يسوع قادم"، و بدأ لاحقًا حملة عريضة بعنوان "نصب بلاكستون التذكاري" التي تم تقديمها في النهاية إلى الرئيس بنيامين هاريسون في عام ١٨٩١، حيث يستشهد بترحيل اليهود في روسيا إلى منطقة الاستيطان وطردهم من السفارديم من أجل تسليط الضوء على ضرورة وجود وطن يهودي في بلاد الشام. واستمرت الحركة في النمو طوال القرن العشرين، حيث مررها مؤسس المعهد الأمريكي لدراسات الأراضي المقدسة والإنجيلي جورج دوغلاس يونج إلى جون هاجي، مؤسس ورئيس منظمة المسيحيين المتحدين من أجل إسرائيل، وهي الآن أيضًا تزيد عن ١٠ ملايين، تفوق عدد أعضاء لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية وعدد السكان اليهود البالغين في الولايات المتحدة البالغ عددهم حوالي ٥.٨ مليون نسمة. وفي الوقت نفسه، سعى العديد من الشخصيات السياسية الإسرائيلية إلى كسب ود الإنجيليين الأمريكيين، من إنشاء مناحم بيغن رابطة خاصة للمسيحيين خلال حقبة ولايته وصداقته المشبوهة مع القس المعمداني جيري فالويل، وكذلك رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو الذي يتبنى المسيحيين الإنجيليين باعتبارهم أحد أعظم حلفائه في مؤتمر السياسة السنوي لمنظمة "مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل" لعام ٢٠١٧.
إن ما يجعل الصهيونية المسيحية متشعبة بشكل خاص هي دوافعها، التي تكمن في نجاح مجموعة اجتماعية منفصلة عن أعضائها. في الواقع، يصفها رونالد ستوكتون، أستاذ العلوم السياسية بجامعة ميشيغان، بأنها "ربما الحالة الوحيدة المسجلة حيث يكون تحقيق مصير أمة أخرى محور أيديولوجية شعبية وطنية واسعة النطاق". وكثيراً ما يروج ممثلو مثل هذه المنظمات لأسباب دعمهم باعتبارها مجرد تضامن مع الشعب اليهودي، وتعاطف مع القضية الصهيونية، ورغبتهم في نحت دولة قومية خاصة بهم على حساب السكان الأصليين ولكن هذه العدسة الإيثارية لا تبدو مقنعة تماما، فطالما كان الإنجيليون غالبا ما يتبنون نهجا حرفيا وجوهريا عند تفسير وتطبيق التلمود. ويعد أحد الأطر اللاهوتية الأساسية للصهيونية المسيحية الأمريكية هو ما قبل الألفية الذي وفقًا لأستاذ كلية ترينيتي في دبلن الدكتور كارلو ألدروفاندي، هو أكثر أنظمه المعتقدات المرعبة تأثيرا في أمريكا المعاصرة، في كتابه الصادر عام ٢٠١٤ بعنوان "الحركات الرؤيوية في السياسة المعاصرة "، حيث يشير إلى ما قبل الألفية على أنه "اختصار لفهم كارثي مهرطق يزعم أن عودة السيد المسيح في المجد تسبق وتفتتح فعليًا فترة الألف عام من السلام والنعيم والقداسة". إن النص الديني الحاسم لفهم أفضل لما قبل الألفية هو الخطاب الإسخاتولوجي مصحوبا بشبكات المصالح الغربية التي تدير حكومات الغرب من خلف الستار من أجل الصوابية والعولمة الرأسمالية النيوليبرالية.
ويشعر الإنجيليون بواجب لاهوتي لدعم وحماية إسرائيل، و كأن الوقوف ضد إسرائيل هو الوقوف ضد الله نفسه، بحسب مفهومهم المعوج، فإن عودة السيد المسيح إلى الأرض تستلزم عودة اليهود والعيش في الأرض المقدسة، وهي الرؤية التي تعقدت بسبب وجود ما يقدر بنحو خمسة ملايين فلسطيني في غزة والضفة، من هنا أتت فكرة تهجيرهم قسريا لتحقيق نهاية العالم، المنسوجة بمجموعة متنوعة من الآيات التوراتية المختارة بعناية مع التاريخ المختصر لتبرير السيطرة العسكرية الإسرائيلية على فلسطين التاريخية، وهو أسوأ أنواع الاحتلال الديني للعقول، ولكن قد يزعم البعض أن مثل هذه النظرية معادية للسامية في الأساس، لأنها تدعو إلى تدمير كل من لا يؤمنون بالمسيحية وتسمح للشعب اليهودي بقدر ضئيل من الوكالة أو تقرير المصير بنفس طريقه الوصاية الدينية المتبعة، وعلى حد تعبير المؤرخ الأميركي ديفيد هامل، فإن قصه الشعب اليهودي تنتقل إلى هذا المفتاح الصهيو- مسيحي، بحيث يشير كل ذلك إلى السلطة المسيحية المطلقة، كما قال ترامب في أحد تصريحاته بضرورة الاحتلال الأمريكي لغزة وعمل مشروعه السياحي بموجب"السلطة الأمريكية"
وعلاوة على ذلك، فإن هذه المهمة تتكثف فيما يتصل بالإنجيليين الأميركيين. فبعد عودته من رحلة إلى فلسطين في عام ١٨٨٩، بعد أن أذهلته موجة الهجرة الصهيونية الأخيرة إلى فلسطين تحت الانتداب البريطاني، سلط بلاكستون الضوء علي الدور الأمريكي الذي أسماه تحقيق خطط الله، أو خِطَّة كورش الحديثة، لمساعدة اليهود على العودة إلى صهيون. ويعتقد بالفعل أن الله اختار أميركا لهذه المهمة بسبب تفوقها الأخلاقي على الأمم الأخرى، وسوف يحكم على أميركا وفقاً للطريقة التي تنفذ بها مهمتها، و لذلك يجبر الإنجيليون الأميركيون أن ينساقوا بدوافع دينية لمساعدة إسرائيل، بسبب شعورهم بالوطنية المرتبطة باللاهوت. وربما يفسر لماذا هم أكثر ميلا لمعارضة أي قيود علي المساعدات العسكرية لإسرائيل، فضلاً عن كونهم أكثر ميلاً للإعتقاد بأن تصرفاتهم في غزة مبررة، فلا يوجد ما هو أكثر خطورة على السلام والعدالة من مؤمن يحمل الكتاب المقدس، مقتنعاً بأنه مكلف بتنفيذ إرادة الله. ولأن الصهيونية المسيحية تشكل عقيدة أساسية للقومية المسيحية البيضاء، فقد أصبح من المستحيل دحضها بالعقل والمنطق، ولكن الأهم من ذلك، اعتباره رفضا للتفوق الأبيض، وكلاهما يُقدَّم باعتباره حقوقاً غير قابلة للتصرف.
ومع وصول الرئيس ترامب إلى ولايته الثانية، زاد تأثير النفوذ الإنجيلي على سياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل، كما يتضح من السياسة الجديدة الأكثر عنفا في تاريخ أمريكا. على سبيل المثال، اختيار ترامب سفير الأمم المتحدة، إليز ستيفانيك، الأكثر صراحة بشأن العلاقات القوية بين إدارته واليمين الإنجيلي، حيث أعلن أن إسرائيل تتمتع بحق توراتي علي الضفة الغربية وهي سياسة تنتهك السيادة الفلسطينية والقانون الدولي وبدعم من منظمة المسيحين المتحدين لعرض خطة إسرائيل لضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية المحتلة، على بعض دول الخليج العربية ودفعها إلى "الخروج من الظل واحتضان إسرائيل علناً".
وفي الوقت نفسه، لا يبدو أن آراء الرئيس السابع والأربعين أفضل، حيث يسلط من حين لآخر خطابه الضوء على رفضه لحق الشعب الفلسطيني في الحياة وتقرير المصير، واعتبار الخمسة ملايين فلسطيني الذين يعيشون في غزة والضفة الغربية مجرد عقبات واردة في النبوءة التوراتية لإسرائيل التي تقتضي ضم كل الأراضي الفلسطينية، هذا لا يعني إعفاء الإدارة السابقة من المسؤولية، في حين أن أي تدابير اتخذتها إدارة بايدن للحد من انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان كانت في كثير من الأحيان أقل من أن تساهم في تحسين كبير في حياة الفلسطينيين، مثل فرض عقوبات على المستوطنين الإسرائيليين في عام ٢٠٢٤ ومع ذلك، هذه ليست محاولة للمساواة بين الإدارتين؛ فمن المرجح أن تجعل إدارة ترامب الجديدة المنطقة أكثر تقلبًا. وأيًا كانت الضمانات التي كانت موجودة في عهد الرؤساء السابقين، فهي على وشك أن تُسحب في ضوء المعتقدات الشخصية لترامب وإدارته، وقربه من أقصى اليمين الإسرائيلي والإنجيلي، واقتراحاته و تذبذب تصريحاته يمثل نذيرًا مروعًا لما سيحل بغزة والضفة الغربية على مدى السنوات الأربع المقبلة. ومع إعطاء ترامب الضوء الأخضر لخطة اليمين الإسرائيلي المتطرف لتدمير غزة والضفة الغربية، فإن إرثا دام ٧٧ عاما من الاضطهاد الوحشي يضع فضلا جديدا للشعب الفلسطيني، الذي امتزجت فيه الدعاية الصهيونية القديمة بالتلمود.
ووفقًا لأستطلاع رأي أجراه معهد أبحاث السياسات العامة، فإن ٥٥% من الجمهوريين يحملون آراء قومية مسيحية تشمل الصهيونية المسيحية المتحالفة مع اليمين المتطرف، إلى جانب ٢٥% من المستقلين ١٦% من الديمقراطيين. وبذلك، يقف المرء يائسًا أمام الاستعمار الاستيطاني والليبرالية الجديدة، فإن هزيمه هذا الوحش القومي الصهيو- مسيحي العالمي يستلزم عدة معارك دبلوماسية و مخابراتية علي المدي البعيد، رغم أن تحالف الصهيونية المسيحية مع الصهيونية اليهودية أصبح يعج بالخلافات، فبعض عناصر اللوبي الإسرائيلي غير مرحبين بمشاركة الجانب المسيحي الصهيوني في دعم إسرائيل مثل رئيس الكونغرس اليهودي العالمي، وهذا قد يكون مدخل القاهرة لوقف مخطط التهجير، فمن الصحيح أن المسيحيه الصهيونية تمثل قوة سياسية مستقلة عن اللوبي الإسرائيلي إلا أن الصراع الأيديولوجي والهوية تلعب دورا في تشكيل النظام العالمي الجديد، لذلك نخوض معركة وجودية لكسر الدوائر.
----------------------------
بقلم: جورجيت شرقاوي